samedi 19 octobre 2013

العفة في تراثنا الشعري

العفة مصدر الفعل (عف) عن الشيء إذا كف عنه و امتنع. و العفة تأتي بمعنى ترك الشهوات الدنيئة، وطهارة الجسد، و هي من خصال الإسلام المثلى.

لقد كان العرب في جاهليتهم يرون في مكارم الأخلاق زينة للرجل. فالرجل الشريف لا يكون مهيبا في قومه إلا إذا كان جوادا كريما شهما شجاعا عفيفا و حاميا يغيث الجار، ويفي بالعهود و يصدق القول..... ونحن لا ندعي أن كل العرب كانوا على خلق سوي جميعا، و إنما نريد أن هذه الأخلاق في ثقافتهم و عرفهم هي أسمى ما يجب أن يكون عليه العربي.

و كثيرا ما قيل عن كرم حاتم الطائي الذي كان يؤثر على نفسه فيقري الضيف و يبيت جائعا. و يعطي عطاء من لا يخاف الفقر.

قال عبد الملك بن مروان : (من قال إن حاتما أكرم الناس فقد ظلم عروة بن الورد).

و كان عروة بن الورد فارسا مغوارا و شاعرا جوادا يلقب بعروة الصعاليك. و الصعلوك عند العرب هو من لا يجد قوت يومه و يعيش على السلب و النهب و الغارة، و قد كان عروة يغير على الأغنياء فيسرق أموالهم و إبلهم و مواشيهم و يقسمها على الفقراء بالتساوي فلا يفضل نفسه عليهم.

و أما الشنفري و هو أيضا أحد الشعراء الصعاليك فقد كان مثلا في العفة و الترفع عن الدنايا، و لاميته الشهيرة شاهد على ذلك.

يقول :

و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

و يأتي هذا البيت بعد افتخار الشاعر بفروسيته و شجاعته. فهو عند الإغارة مقدام يتقدم الفرسان، و لكن إذا وضع الطعام كان آخر من يمد إليه يده حتى و إن كان أكثرهم جوعا. لأن أعجل الناس إلى الطعام أجشع و أطمع، و الشاعر لا يرضى أن يكون جشعا طماعا.

فالشاعر الأبي العفيف يستطيع أن يتحمل الجوع و لكنه لا يتحمل أن يوصف بالجشع. و هو ما يتضح من خلال قوله :

أديـــــــم مطال الجـــــــوع حتى أميته و أضرب عنه الذكر صفحا فأذهل

و أستف ترب الأرض كي لا يرى له علـــــي من الطول امرؤ متطــول




و معناه أن الشاعر يتناسى أمر الجوع حتى يميته، ويفضل أن يأكل تراب الأرض على أن يمد يديه لأحد. فألم الجوع بالنسبة إليه أخف من امتنان الناس و تفضلهم بالجميل عليه.

فلله ذره من شاعر نشأ في وسط جاهلي و مع ذلك يؤثر عزة نفسه و عفتها و إباءها على المتاع المادي الذي يغرق فيه مجتمعنا اليوم. و ما أروع قوله :

و أغدو على القوت الزهيد كما غدا أزل تهاداه النتائف أطحل

بل ما أروع قوله :

و لكن نفسا حرة لا تقيم بي على الضيم إلا ريثما أتحول

و في هذا المقام – مقام العفة- بيت لعنترة العبسي يصف عفته :

وأغض الطرف عن جارتي حتى يواري جارتي مثواها

وما أبعد بيت عنترة عن قول القائل :

رميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها

ولحاتم الطائي :

أما والذي لا يعلم الغيب غيره ويحيي العظام البيض وهي رميم

لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهى مخافة يوما أن يقال لئيم

و من أروع الأمثلة على العفة، ما كان عليه الشعراء العذريون و هم قوم عرفوا بالحب الصادق العفيف حتى قيل إنهم إذا أحبوا ماتوا و هم لا يعرفون إلا امرأة واحدة في حياتهم. فلذلك نسب كل شاعر منهم إلى حبيبته، فقيل قيس ليلى، و جميل بثينة و كثير عزة....

إن الشاعر العذري روحاني في حبه، إنه أقرب إلى الحب الصوفي، فالشاعر لا يهمه من حبيبته جسدها و إنما روحها. لذلك يخلو ديوان قيس بن الملوح مثلا أو يكاد من وصف عيون ليلى أو شعرها أو شفاهها، فلا تجد فيه ذكرا لهذه الأعضاء من الجسد إلا نادرا. و لكنه في نفس الوقت يفيض عشقا و صبابة، ويصف ألم الفراق و عذاب الهجر....

و الشاعر العذري يؤمن بأن حبه لا أمل فيه، فلا سبيل إلى لقاء الحبيبة أو الزواج منها، و إذا كان الناس يعشقون و يتمنون الزواج من عشيقاتهم أو لقاءهن على الأقل فإن الحب لا يكون لذيذا عند العذريين إلا إذا كان متعذرا صعبا و هو ما يعبر عنه المتنبي – و هو ليس طبعا من العذريين- بقوله :

و أحلى الهوى ما شك في الوصل ربه و في الهجر فهو الدهر يرجو و يتقي

فالحب العذري إذن حب بلا أمل.

و ما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل

إنه حب الروح للروح لا حب الجسد للجسد، حب يظن فيه المتحابان أنهما يعرفان بعضهما قبل أن يلتقيا، و قبل أن يولدا، و أنهما سيحبان بعضهما حتى بعد الموت و إلى الأبد، إنه حب سرمدي لا انتهاء له . و قد عبر عن ذلك جميل بن معمر في قوله:

تعلق روحي روحها قبل خلقنا و من بعد ما كنا نطافا و في المهد

فزاد كمـا زدنا فأصبح ناميا و ليس إذا متنا بمنتقــض العهد

و لكنه باق على كل حالة و زائرنا فـي ظلمة القبر و اللحـد

فالشاعر قد تعلقت روحه بروح حبيبته (بثينة) قبل خلقهما. و بعد أن تحولا إلى نطف، و من بعدما صارا صبيين في المهد. و هذا التعلق قد نما بنموهما (فزاد كما زدنا). و هو لن ينتهي بعد موتهما (و ليس إذا متنا بمنتقض العهد) بل إنهما سيحبان بعضهما حتى بعد الموت في ظلمة القبر و اللحد.

و إذا كان العاشقان في سعي دائم إلى الوصال، فإن جميلا يرضى من بثينة بالقليل، فهو يكتفي بالمنى و الأمل الذي لن يتحقق، و يرضى بالنظرة العجلى، و بأن تمر السنة كاملة دون أن يراها. و لعل أبيات الشاعر أكثر تعبيرا عن هذا المعنى:

و إنـي لأرضى من بثينة بالـذي لو أبصره الواشي لقرت بلابله

بـلا او بألا أستطيع، و بالمنـى و بالأمل المرجو قد خاب آمله

و بالنظرة العجلى و بالحول ينقضي أواخره ما نلتقي و أوائلــه

و كذلك كان حب قيس بن الملوح لابنة عمه ليلى حبا عفيفا صوفيا سرمديا لا ينتهي بانتهاء الحياة أو بتغير الأحوال، يقول :

فشب بنـو ليلى و شب بنو ابنها و أعلاق ليلى فـي فؤادي كما هيا

و لم ينسني ليلى افتقار و لا غنى و لا توبة حتى احتضنت السواريا

بل إن قيسا يذهب في حبه لليلى مذهبا غريبا عن العشاق. فهو لا يرجو لقاءها، و هي لا ترجو لقاءه، بل إنه يستحيي حتى من أن تعرض له في المنى و الأحلام بوصلها. قال :

خليلان لا نرجو اللقاء و لا نــرى خليليــن إلا يـرجوان تلاقيـا

و إني لأستحييك أن تعرض المنى بوصلك أو أن تعرضي في المنى ليا

و كأن الشاعر يجد لذة في عذاب الهجر و البعد، و يرى بأن اللقاء سيفسد عليه هذه اللذة. بل لقد صرح الشاعر أنه يتمنى استمرار هذه المعاناة التي يعانيها لأنه يجد فيها لذة. يقول :

فإن كنت مطبوبا فلا زلت هكذا و إن كنت مسحورا فلا برأ السحر

و معناه : إذا كنت مريضا (مطبوبا) فأنا لا أتمنى أن يزول هذا المرض و إن كنت مسحورا فلا أريد أن يزول هذا السحر.

و ما ذلك إلا أن الشاعر يجد لذة في هذا العذاب، هي اللذة التي عبر عنها الشاعر بقوله :

هي النار في الأحشاء لكن وقعها على كبدي مما ألذ به برد

و الشاعر العذري لا يرى أن اللقاء سيروي ظمأه. فهو ليس إلا كالماء المالح لا يزداد شاربه إلا عطشا، و هو ما يعبر عنه قيس بقوله:

فلـــو تلتقـي أرواحنا بعد موتنا و من دون رمسينا من الأرض منكب

لظل صدى رمسي و إن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش و يطـــرب

و من روائع الأبيات التي تجلي عفة الشاعر قوله :

و إني لأستغشي و ما بي نعسة لعـل خيالا منك يلقى خياليـا

و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالليل خاليا

و معناه أن الشاعر يضطجع فينام، رغم أنه ليس له رغبة في النوم و ما ذلك إلا ليرى خيال ليلى في أحلامه. و ربما اعتزل الناس و خرج من البيوت إلى الصحراء الواسعة حتى يتحدث في نفسه عن ليلى بعيدا عن الناس. فرؤية الحبيبة في الأحلام و تحديث النفس بها بعيدا عن الناس متعة عند الشاعر العذري لا تعد لها متعة.

قد تعد مجنونا أو فاشلا إذا تحدثت اليوم أمام هؤلاء القوم عن الحب المستحيل في زمن أجهزة التحكم و المصاعد الكهربائية حيث صار الإنسان يحصل على مبتغاه بضغطة زر. حيث يدوس الإنسان كرامة أخيه الإنسان و يمرغها في التراب، ثم لا يخجل من نفسه و لا يتجرأ ضميره الملحود أن يحاسبه على ذلك. لقد صار الحب شيئا يمكن أن تدفع مقابله قروشا قليلة، و صار له معنى آخر لعل صلاح عبد الصبور كان أقرب إلى تصويره حين قال :

الحب يا رفيقتي قد كان

في أول الزمان

يخضع للترتيب و الحسبان

نظرة فابتسامة فسلام

فكلام فموعد فلقاء

اليوم يا عجائب الزمان

قد يلتقي في الحب عاشقان

من قبل أن يبتسما

الحب في هذا الزمان يا رفيقتي

كالحزن لا يعيش إلا لحظة البكاء

أو لحظة الشبق

الحب بالفطانة اختنق.
الأستاذ أبو عدنان ميلود الجملي



via منتديات دفاتر التربوية بالمغرب http://www.dafatiri.com/vb/showthread.php?t=507485&goto=newpost

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire