mercredi 30 octobre 2013

المادية الصاخبة

هوية الإنسان في هذا الزمان الأغبر ماله.فهو اللغة التي بها يتواصل الجميع.وفاقدها أصم أبكم حتى وإن كان أفصح من سحبان وائل!وما أصدق أبا الفتح البستي في هذا الباب حين يقول:

سحبان من غير مال باقل حصر وباقل في ثراء المال سحبان

إننا في عصر السوق بامتياز !وإذا كنا كثيرا ما نسمع أن العالم أضحى قرية صغيرة،فإنه كان حريا بنا أن نقول إنه صار سوقا كبيرة،لا تحدها حدود ولا تنفض ما عاقب الليل النهار!

عندما قرأت قصة بشر الحافي، ذلك الصوفي الذي نزل بغداد-وهي بعد في بداية تأسيسها ،ليست بالتعقيد الذي عليه مدن اليوم –فهاله ما رأى!فخلع نعليه ووضعهما تحت إبطيه وجرى في اتجاه الصحراء.ومن يومها لم يعلم عنه شيء...عندما قرأت هذه القصة ،تساءلت مع نفسي: إلى أين كان سيهرب بشر لو أدرك زماننا !؟فالأرض اليوم بصحرائها ومحيطاتها بل وسمائها ،سوق قائمة!

ما يؤلم حقا في زمن يدعي أهله رعاية حقوق الإنسان ،هو موقع القيم-التي بها تحقق إنسانية الإنسان-في هذه السوق . لا يبالغ المرء إذا قال إنها أبخس بضاعة على الإطلاق!

من المتناقضات التي أوشك أجن حين أفكر فيها-و الحال أننا نتبجح اليوم باحترام العقل والمنطق-ذلك الإجماع التام على خطورة وضرر الخمور و المخدرات والتدخين من جهة،ثم ذلك الرواج والإقبال الهائلان على هذه المفاسد من جهة ثانيةّ!

كل أطباء العالم يؤكدون أن نسبة كبيرة من المدخنين عرضة لأمراض خطيرة كالسرطان وأمراض أخرى لا تقل خطورة.وكثير من الباحثين الاجتماعيين يعزون الاضطراب في العلاقات الاجتماعية وانتشار الجرائم والتفكك الأسري إلى الخمور والمخدرات.وكثير من حوادث السير سببها تناول الخمور أو المخدرات .هذا أمر لايكذبه أحد ولا يشك فيه أحد.وفي الوقت ذاته نجد كل حكومات العالم ترخص لبيع التبغ وتقيم حَرَصاً أحيانا على الحانات.وتصدر قوانين مراوغة تمنع على السائقين شرب الخمور.ما هذا التناقض الغريب؟وكيف ندعي أننا في زمن العلم والمنطق ،ونقبل على أنفسنا مثل هذا؟

لا أستطيع أن أصدق أن مكافحة المخدرات أمر يستعصي على دول أجهزة مخابراتها قادرة على رصد حركة النملة !وإذا كان نظام طالبان بإمكانياته المتواضعة ، وفي فترة وجيزة ،قد تمكن من القضاء على المخدرات بكل أنواعها ،في بلد يعتبر من أكثر المنتجين لها،فهل تعجز الدول العظمى عن ذلك؟؟

لو أن هذه الدول تراعي فعلا حقوق الإنسان ،ولو أن الإنسان يعني فعلا بالنسبة لها شيئا،لما ترددت لحظة واحدة في القضاء على ما يؤذيه.ولكنها لا تريد أن تضيع على نفسها ذلك الدخل العظيم الذي يتحصل من هذه التجارة الرابحة. ثم إن انشغال الشباب بهذه البلوى وإدمانهم عليها يشغلهم عن أمور السياسة وما يدب فيها من فساد. وذلك أريح للحكومات.

أليس نفاقا أن جميع حكومات العالم تدفع الرخص لتجار التبغ والخمور،وتحذر المستهلكين على وسائل الإعلام من أخطارها؟؟

ماذا سيحدث لو منعت هذه التجارة الفاسدة منعا كليا؟كم أسرة ستنضاف إلى لائحة الأسر المشردة ؟كم معطلا سينضاف إلى لائحة المعطلين؟أليس ذلك أفضل على كل حال من مجتمع ضائع بأكمله من فرط ما يستهلك من الدخان الفاسد؟لأن الأمر - للأسف-لايقتصر على المدمنين. فلم يعد هناك من يَسْلم من استنشاق هواء فاسد،لأنه ليس هناك مكان لا تُدخن فيه هذه السموم.

ثم هل لا بد أن يبيع هؤلاء الموت لغيرهم كي يبقوا هم على قيد الحياة؟ما هذا المنطق الغريب؟وكيف نزعم أننا أهل منطق ونسمح ببيع السموم في أوطاننا ؟

ومن الأمور التي تستفزني كثيرا ،أنه حين تقع حادثة سير مروعة ،ويذهب ضحيتها العشرات ،ويضبط السائق مخمورا ،يحاكم على ذلك وحده،ولا يحاكم التاجر الذي باعه الخمر ولا الجهات التي رخصت ببيعها ،مع أن الجميع شريك في هذه الجريمة.فما معنى أن أبيعك السلعة ثم أحاسبك على استعمالها؟هل هذا قانون أم مهزلة؟؟

لو كانت حياة الأبرياء من الناس تهم فعلا ،لما رُخص أصلا لبيع الخمور!ولكن الحكومات تحب أن تحصل الأرباح أولا ثم ليحدث ما سيحدث !إنها أحرص على الأرباح منها على حياة المواطنين.فما قيمة الإنسان في زمن حقوق الإنسان!؟

كل شيء أصبح خاضعا لمنطق الربح والخسارة وسلطان المال!حتى الجرائد التي من المفروض أن تكون منابر تنويرية،أصبحت سلعة تحرص على تحصيل الأرباح.لذلك لم يعد غريبا أن تجد كثيرا من اليوميات والمجلات تملأ صفحاتها بمواضيع عن الجنس والشذوذ وفضائح وعورات الناس ،مصحوبة بصور تستجلب "القراء".والمصيبة أن معظم هؤلاء القراء ممن قال عنه الشاعر :




شر الورى بمساوئ الخلق مشتغل مثل الذباب يراعي موضع العلل

وليس غريبا أن يصير الأدب اليوم خاضعا لمعيار الجرأة في طرح المواضيع المسكوت عنها.فترى سيرة ذاتية مثل"الخبز الحافي"،تلقى ذلك الإقبال الجماهيري الواسع،فيقبل عليها حتى المتعثرون في القراءة الذين بالكاد يستطيعون فك الحروف .وتترجم إلى لغات كثيرة ،مع أنها جمعت من كل ألفاظ الشارع ،وطرح فيها الكاتب من أسراره الخاصة ما يخجل المرء أن يتحدث به أمام نفسه في خلوته .ويصير صاحب الكتاب رمزا من رموز الأدب ،يحتفى به ويكرم ...لماذا؟لأنه ليس أديبا في الحقيقة وإنما هو صاحب مشروع تجاري ناجح ،استطاع أن يحقق أرباحا كبيرة .وحين تحتفي به الجهات المعنية بهذا النوع من الكتابات ،فلأنها تبتغي تشجيع باقي الكتاب على إنشاء مشاريع تجارية مشابهة ،مدرة للأرباح.ولقطع الألسن التي تصيح : اللهم إن هذا منكر،لا تجد إلا أن تصفهم بالرجعية والتزمت ،وقد تورد في أحسن الأحوال توضيحا لبعض الأطباء النفسيين يدعو إلى ضرورة إخراج " المسكوت عنه "إلى الوجود والتخلص منه من أجل التنفيس والتخفيف عن الصدر مما يضيق به .وكأن كلام النفسانيين وحي منزل من السماء لا يقبل النقاش.والحال أن فشل الطب النفسي جلي للعيان ،فعدد المرضى اليوم أكثر منه في أي زمن مضى ،وقد استجد من أمراض النفس ما لم يكن معروفا .وكيف يكون الإنسان سويا نفسيا،في مجتمع لا يقيم وزنا للقيم ولا للأخلاق ،بل ولا للإنسان نفسه


أبوعدنان ميلود الجملي



via منتديات دفاتر التربوية بالمغرب http://www.dafatiri.com/vb/showthread.php?t=509026&goto=newpost

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire