mardi 29 mars 2016

باحث مغربيّ: هذه حقيقة الآية القرآنية "إن الدين عند الله الإسلام"

ط§ط¶ط؛ط· ط¹ظ„ظ‰ ط§ظ„طµظˆط±ط© ظ„ط±ط¤ظٹطھظ‡ط§ ط¨ط§ظ„ط­ط¬ظ… ط§ظ„ط·ط¨ظٹط¹ظٹ د. مصطفى بوهندي
الثلاثاء 29 مارس 2016 -
ينطلق الدكتور مصطفى بوهندي، في مقال طويل خص به هسبريس التي تنشره في جزأين، من الآية القرآنية "إن الدين عند الله الإسلام"، ونصوص قرآنية أخرى، ليخلص إلى أن دين الله ليس هو دين محمد عليه السلام معزولا عما جاء به الأنبياء من قبل، ومبطلا له، كما درج عليه عامة علماء المسلمين وغيرهم.

ويرى مدير مركز أديان للبحث والترجمة أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، في هذا الجزء الأول من بحثه، أن مفهوم الإسلام من الإنسان بأنبيائه وكتبه وحكمته، يتسع إلى الكون بجميع مخلوقاته، وهو بذلك "دين الله شاملا للخلائق كلها، بما فيها الإنسان".

درج المسلمون عموما، بمن فيهم غالبية علماء الدين، على اعتبار قوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران 19، وقوله سبحانه: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران 85)، وغيرها من النصوص المماثلة، القرآنية والحديثية، أدلة على رفض القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لمختلف الأديان الأخرى واعتبارها منسوخة وباطلة، واعتبار معتنقيها كفارا من أهل النار، إلا إذا أسلموا ودخلوا في الإسلام الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم المسلمين.

وانبنت على الأمر مواقف كثيرة معادية للأديان، ومناقضة للنصوص الصريحة في القرآن، الداعية إلى الإيمان بجميع الكتب والرسل من غير تفريق بينهم، والنصوص الداعية إلى المعاملة الحسنة والقول المعروف والجدل بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، والرجوع إلى الكلمة السواء بيننا وبينهم، والنصوص المقرة بحرية المعتقد، والتي تمنع الرسول والمؤمنين من السيطرة والتسلط والإجبار والإكراه والإلزام.

جاء في واحدة من فتاوى مراكز الإفتاء العالمية المنتشرة فتاواها على الإنترنت، ما يؤكد ما ذكرناه، إثر جواب أصحاب المركز عن سؤال في حكم من اعتنق المسيحية من المسلمين؛ تقول الفتوى: "فإن ترك دين الإسلام واعتناق المسيحية ردة يستحق فاعلها القتل بعد أن يستتاب، فإن تاب ورجع إلى دينه الحنيف سقط عنه الحد، ودليل قتل المرتد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري وأحمد.

وليعلم السائل أن الإسلام نسخ جميع الرسالات السابقة وأبطل العمل بأحكامها، ولذلك قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (النساء:47) وقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) (المائدة: من الآية3).

وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله تعالى لا يقبل غير هذا الدين من أحد مهما كان، وأن الله دعا أهل الكتاب إلى ذلك، فأهل الكتاب مأمورون بترك دينهم واعتناق دين الإسلام، ومن لم يفعل ذلك منهم فهو من أهل النار، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). (انتهت الفتوى).

ليست الفتوى هذه إلا صدى لفكر إسلامي عام، أشرنا إليه في مطلع المقال؛ مؤسس منذ قرون عديدة، قامت عليه مؤسسات دينية وعلمية وسياسية متعددة، في كل أقطار العالم الإسلامي وخارجها.

ولا أظن أننا بحاجة إلى إضافة أمثلة وشواهد أخرى على هذا الأمر، لكونه مما عمّت به البلوى، وقلّما تجد خلافه، خصوصا في المؤسسات الإسلامية الرسمية والشعبية. والأدهى والأمر أن هذا هو ما فهمه المخالفون للديانة المحمدية كذلك، واتخذوا منه ذريعة إضافية إلى عدم اعترافهم وإقرارهم بما جاءت الرسالة الخاتمة به، ومواجهتها خفية أو علانية.

يمكننا إجمال عناصر هذه الفتوى الأساسية في ثلاث:

أولها: يتعلق بحرية المعتقد والإيمان والكفر والردة وحدّها الذي هو القتل، والاستتابة منها وسقوط الحد بالتوبة والاستدلال على كل ذلك بحديث: "من بدّل دينه فاقتلوه".

وثانيها: يتعلق بنسخ الأديان وإبطالها وعدم قبولها، بناء على نصوص قرآنية ذكروها، منها قوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"، واستنتجوا من ذلك "أن الله تعالى لا يقبل غير هذا الدين من أحد مهما كان".

وثالثها: يتعلق بوجوب ترك أهل الكتاب لدينهم واعتناق دين الإسلام، وإلا فهم من أهل النار بناء على حديث أوردوه كذلك.

أولا: حرية المعتقد وقتل المرتد

فأما ما يتعلق بحرية المعتقد، الذي ينبني على نصوص قرآنية عديدة، وإنكارها بحديث "من بدل دينه فاقتلوه"، فقد أثار إشكاليات وتناقضات عديدة منذ القدم، انبرى العديد من علماء الدين للإجابة عليها عبر فتاوى مختلفة أشهرها في وقتنا الحاضر فتوى الشيخ صالح بن فوزان، يقول فيها: أوَّلًا: مَنْ بدَّل دينه فاقتلوه، حديثٌ صحيحٌ، رواه البُخاريُّ وغيره من أهل السُّنَّة بهذا اللَّفظ: (مَنْ بدَّلَ دينهُ فاقتلوهُ).

وأمَّا الجمع بينه وبين ما ذُكر من الأدلَّة، فلا تعارض بين الأدلَّة ـ ولله الحمد؛ لأنَّ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بدَّل دينهُ فاقتلوهُ، هذا في المرتد الَّذي يكفر بعد إسلامه، فإنَّهُ يُستتاب، فإنْ تاب وإلاَّ قُتِلَ. وأمَّا قوله تَعَالَى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ﴿البقرة: 256﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ﴾ ﴿يونس: 99﴾، فلا تعارض بين هذه الأدلَّة، لأنَّ الدُّخول في الإسلام لا يمكن الإكراه عليه، الدُّخول في الإسلام هذا شيء في القلب، وهذا اِقْتناع في القلب، ولا يمكن أنْ نتصرَّف في القلوب، وأنْ نجعلها مؤمنة، هذا بيد الله ـ عزَّ وجلَّ، هو مُقلِّب القُلوب، وهو الَّذي يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء.

لكن واجبنا الدَّعوة إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والبيان، وال**** في سبيل الله لمنْ عاند وعرف الحقَّ وعاند بعد معرفته، فهذا يجب علينا أنْ نُجاهده. وأمَّا أنَّنا نُكرهه على الدُّخول في الإسلام، ونجعل الإيمان في قلبه قسرًا هذا ليس إلينا، وإنَّما هو راجعٌ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، "لكن نحن ندعُو إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالحكمة والموعظة الحسنة، ونُبين للنَّاس هذا الدِّين، ونُجاهد أهل العناد، وأهل الكفر، والجُحود، حتَّى يكون الدِّين لله وحده ـ عزَّ وجلَّ ـ وحتَّى لا تكون فتنة". (انتهي كلامه).

وعندما أدرك صاحب الفتوى أن إجبار المرتد على الرجوع إلى "الإسلام" لا يختلف عن إجبار الكافر على الدخول في "الإسلام" أول مرة، فكلاهما يعد من أمور القلب التي لا يمكن التصرف فيها، وكلاهما يعد إكراها وإجبارا يمنعه ما سبق ذكره من النصوص، استدرك قائلا: "أمَّا المرتد فهذا يقتل؛ لأنَّهُ كفر بعد إسلامه، وترك الحقَّ بعد معرفته، فهذا عضو فاسد يجب بتره وإراحة المجتمع منه؛ لأنَّهُ فاسد العقيدة، ويُخشى أنْ يُفسد عقائد الباقين، هذا لما فسد ومرج قلبه وجب قتله لأنَّهُ ترك الحقَّ لا عَنْ جهلٍ، وإنَّما عَنْ عنادٍ وبعد معرفة الحقّ، ولذلك صار لا يصلح للبقاء، ويجب قتله، فلا تعارض بين قوله تَعَالَى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وبين قتل المرتد؛ لأنَّ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ هذا عند الدُّخول في الإسلام". (انتهى استدراكه).

تبعا للفتوى، فإن النصوص المتحدثة عن حرية المعتقد وعن منع الإكراه في الدين لا تخص المرتدين عن الإسلام، بناء على حديث "من بدل دينه فاقتلوه"، لكن التبرير الذي برر به المفتي وجوب قتل المرتد يمكن أن ينطبق بالكامل على الكافر، والتبرير الذي منع به إكراه الكافر يمكن أن ينطبق بالكامل على المرتد كذلك. وفي جميع الأحوال، فإن التبريرات المقدمة للتفريق بين المرتد والكافر غير مقنعة، ويبقى الحديث المستدل به على ذلك مناقضا للنصوص القرآنية المحكمة المؤسسة لحرية المعتقد ومنع الإكراه في الدين.

صيغة حديث "من بدل دينه فاقتلوه" تفيد بعكس مراد المفتين، فهي تتحدث عن كل من بدل دينه بصيغة الإطلاق، وليس عن المسلمين الذين بدلوا دينهم؛ فيصير المرتد عن دينه- بهذا الحديث - هو كل خارج من أي دين إلى آخر وليس مقتصرا على المسلمين.

لقد نهى القرآن وحذر المسلمين من الارتداد عن دينهم، لكنه وكل حكمهم إلى الله يوم العرض عليه، ولم يكله إلى أحد من البشر بمن في ذلك الأنبياء والمرسلون. وهناك نصوص قرآنية عديدة تتحدث عن الكفر وتحذر المؤمنين منه وتنذرهم بمصير الكافرين، ولكنها لا تجعل للكافرين أو المرتدين عقابا في الدنيا يصل إلى عقوبة القتل أو أية عقوبة أخرى.

لقد حدثنا القرآن الكريم عن العقوبات والحدود، لكنه لم يذكر أبدا عقوبة القتل أو أي عقوبة أخرى تترتب على مسائل تتعلق بالإيمان والكفر والمعتقد. الإيمان والكفر والارتداد عن أي دين إلى دين آخر هي مسائل المعتقد، وقد ضمنتها النصوص القرآنية المختلفة المانعة للإكراه، ولا يمكن للحديث المنكر المذكور أن يجهز عليها مهما كانت شهرته وتداول الناس له.

والواقع أن المؤسسات السياسية الممسكة بالسلطة الدينية كثيرا ما تمسكت بحديث "من بدل دينه فاقتلوه"، مع أنه يضرب عرض الحائط بكل النصوص القرآنية المؤسسة لمفاهيم الحرية الدينية والمذهبية وعدم الإكراه والتسلط في الإسلام؛ وذلك لما يسمح به لهذه المؤسسات من فرض سلطتها وسيطرتها على قلوب الناس وعلى أرزاقهم، ولتصدر في حقهم ما تشاء من عقوبات وقتما تشاء إذا خالفوا ما ترى أو ما تريد، بدعوى ارتدادهم وكفرهم وخروجهم عن الإسلام أو عن جماعته، والتي هي بالتأكيد جماعة الحاكم المتسلط على العباد، الذي لا يُري الناس إلا ما يرى وما يهديهم إلا سبيل الرشاد.

كما يعطي هذا الحديث للمؤسسة السياسية وما يتبعها من مؤسسة دينية حق مراقبة الناس وتفتيش قلوبهم ومعتقداتهم ومدى موافقتها لما عليه دين الحاكم ونظامه، وبناء عليه تقام محاكم التفتيش وما فيها من اعترافات واستتابة وإكراه على الرجوع إلى دين جماعة الحاكم ومذهبه، وباسمها تصدر في حق المعترض أحكام الإعدام الشرعية وينفذها زبانيته.

روايات الحديث وصيغته:

"بعد إيراده لروايات الحديث الثمانية بصيغها المختلفة، قال غالب حسن الشامندر (كاتب عراقي مؤسس حزب الدعوة): هذه هي أهم الروايات، وجاءت به كثير من المراسيل، ونظرة عاجلة في الروايات سنرى أن المدار فيها على عكرمة، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، كلهم عن (ابن عباس)، والحديث من الآحاد، لأنها جميعاً تنتهي عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه".

وفي حديثه عن صيغة الحديث، قال تحت عنوان "الإبهام سيّد الموقف": (من بدَّل دينه فاقتلوه...) هذه صيغة مبهمة بلا شك، فهي خالية من أي استدراك، وأي شروط، وبلا قيد، ونظامها اللغوي مربك، وقد تسبب هذا الغموض في كثير من الإرباكات الشرعية في موضوع حكم الرِّدة هذا.

بداية، النبي الكريم في غاية الدقة والبيان في نشر العلم الشرعي، وأنا أشك في روايات كثيرة منسوبة له صلى الله عليه وسلم ذات المحتوى الغامض المبهم، فهو جاء ليعلمنا وليس ليبهمنا، وحديث الردة هذا يبهمنا ولا يعلمنا، وتزداد أهمية الوضوح في موضوعات الدماء والفروج والأموال، لأنها تتصل بصميم الاجتماع البشري، وربما غموض يحل بالاجتماع البشري ويلات لا تحمد عقباها، ويلات تزرع الشر والعدوان والظلم والاضطهاد والفقر والبلاء.

هذا الغموض في صيغة الرواية المزعومة تسبب في اختلافات هائلة في شروط تنفيذ حكم الرّدة، كما أنه خلق حالة من الفوضى على صعيد ميادين التطبيق لما هناك من ملابسات في فهم مدلول (مَن ْ) ومشاكلها اللغوية والدلالية. وقد استغِّل الحديث أيَّما استغلال في قتل الناس بحجة الرِّدة في داخل الدائرة الإسلامية نفسها، فقد كان لغموض الصيغة دور كبير في مثل هذا الاستغلال البشع.

إن صيغة الحديث تعبر عن ذات منفعلة، متسرّعة، لم تقم للزمن وزنا، ولا لشروط وموجبات الفهم وزنا، ولا لممكنات الوهم والخطأ والخبط وزنا، ومن المستبعد أن يرسل النبي مثل هذا الحكم الخطير من دون بيان واضح، ومما يزيد الطين بلّة هو غياب التفاصيل حتى في روايات منفصلة، اللهم إلا إشارات سريعة، ولنا أن نراجع أحكام المرتد في موسوعات الحديث الكبيرة لنتأكد من ذلك.

الغريب كما قلت سابقا، وكما أنتبه إلى ذلك أكثر من باحث في التاريخ الإسلامي، خاصة في قضايا ومسائل ومشكلات السيرة النبوية، أن النبي الكريم لم يُقم حد الرِّدة طوال حياته النبوية الكريمة. (انتهى كلامه).

الملاحظ أن أغلب روايات الحديث المذكور، بما في ذلك رواية البخاري وأحمد، قد تضمنت قصة حديث نشأ في عصور لاحقة عن العهد النبوي، حيث علق ابن عباس على رواية حكيت له- بعد فترة من وقوعها - عن إحراق "زنادقة"، هم وكتبهم التي كانوا يحملون من طرف علي بن أبي طالب. فاعترض ابن عباس على هذا الحادث الذي خالف فيه علي حسب قوله حديثا نبويا يقول: "لا تعذبوا بعذاب الله"، لكنه قدم بديلا للحرق وهو "القتل"، مبينا أنه لو كان مكان عليّ لما أحرقهم، وإنما سيقتلهم، واستشهد على صحة فعله ذلك بحديث "من بدل دينه فاقتلوه".

يلاحظ أن صراعا محتدما بين مذهبين في مواجهة الزنادقة وكتبهم، أحدهما يمثله عليّ ابن طالب الذي واجههم بالحرق، وهو مذهب مرفوض عند رواة هذا الحديث، واستدلوا على رفضه بالحديث المانع من الحرق لكون ذلك من اختصاص الله. والثاني يمثله ابن عباس الذي أراد، لو كان الأمر بيده، أن يستعمل القتل المشهود له بالحديث الذي نتدارسه. يلاحظ أن هذه الروايات جميعا لم تورد ولو آية قرآنية واحدة في الموضوع، ولا أشارت إلى النصوص القرآنية العديدة المخالفة المدافعة عن حق الحياة وحرية الرأي والمعتقد.

لقد قُدِّم الحديث مفصولا عن سياقاته التاريخية، مما أضفى عليه هالة من القداسة، وحرمنا من فهمه ومعرفة ملابساته السياسية والاجتماعية والتاريخية ووضعه في إطارها، ومنعنا من دراسته ونقده. وبقراءتنا لسياقه النصي يتبين أنه أنتج في إطار صراع سياسي ومذهبي، تبحث فيه السلطة السياسية الحاكمة عن شواهد لتصفية خصومها المذهبيين الذين أطلقت عليهم الزنادقة.

وبالرجوع إلى فتوى الردة واستعمالها للحديث المذكور، نجدها تسير في نفس المسار التاريخي في تصفية الخصوم السياسيين والمذهبيين والفكريين، باسم الله والدين، والحقيقة أنه ليس في دين الله ما يسمح بهذا التصرف الإجرامي، ضد ما يسمونه بالردة، والذي يخالفه القرآن الكريم بجميع نصوصه.

ثانيا: الإسلام ناسخ ومبطل لما سبقه من الأديان

وأما عن قولهم "إن الإسلام ناسخ ومبطل لما سبقه من الأديان، ولا يقبل الله من أحد غير هذا الدين لقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)"؛ فنعالجه في الفقرة التالية:

إن الإسلام في القرآن الكريم لم يكن معناه أبدا الدين المحمدي المخالف والناسخ والمبطل للأديان الأخرى، ومنها الأديان الإبراهيمية التي جاء بها إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. وسياق الآية يؤكد ذلك، قال تعالى: "{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} - آل عمران 18-19}؛ وهو ما نفهم منه أن الإسلام ، هو توحيد الله والإسلام له دون غيره، وهو ما يشهد به الله والملائكة وأولو العلم، من أنه سبحانه لا شريك له، وأن الدين عنده هو الإسلام.

يواصل العرض القرآني مفسرا معنى الإسلام لله وحده؛ أنه هو إسلام الوجه لله سبحانه، من غير شريك، فمن أسلم بهذا المعنى فقد اهتدى، سواء كان من الأميين أو من أهل الكتاب؛ ومن رفض هذا الإسلام فليس على محمد والذين واصلوا رسالته بعده إلا البلاغ والله يتولى الحساب.

وكذلك قوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، يؤكد المعنى الوجودي والكوني والإنساني العالمي نفسه الذي شهد به الله والملائكة وأولو العلم أن الله لا إله إلا هو وأن من في السماوات والأرض أسلموا إليه دون غيره، وهو الدين الذي أرسل به جميع أنبيائه وأنزله على كل رسله في جميع كتبه، وهو الذي أُمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم بإتباعه عن طريق الإيمان بما أُنزل على هؤلاء الرسل جميعا من غير تفريق بينهم، وإسلام وجهه لله هو ومن اتبعه في الإطار نفسه.

لذلك لم يكن ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) منكرا أو كافرا أو ناسخا أو مبطلا لما جاء به الرسل من قبله وجاءت به الأديان. وبالعودة إلى السياق القرآني العام الذي وردت فيه هذه النصوص يتبين الأمر؛ هناك إذن ميثاق أُخذ على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بالرسول الذي يأتي بعدهم، مصدقا لما معهم من الكتاب والحكمة، وينصرونه، فأقروا وشهد الله عليهم بذلك.

وهو يفيد بأن أساس هذا الميثاق بين الأنبياء جميعا هو وحدة الرسالة التي جاؤوا بها، وأن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم سيكون موافقا ومصدقا لما جاؤوا به من كتاب وحكمة؛ وعلى هذا الأساس وجب عليهم الإيمان بما جاء به ومناصرته، وأقر به الأنبياء جميعا وشهدوا عليه. كل هذا يختلف مع النظرية الثقافية لدى المسلمين التي تنسخ وتبطل الأديان الأخرى وترفض الاعتراف بها. إنها رسالة واحدة جاء بها جميع الأنبياء والرسل والكتب، وصدقها القرآن الكريم ونبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام، ومن رفض هذه الحقيقة وتولى عنها بعد ما جاءه العلم بها وأقرها جميع المرسلين فأولئك هم الفاسقون.

دين الله إذن في كل النصوص القرآنية المستشهد بها ليس هو دين محمد عليه السلام معزولا عما جاء به الأنبياء من قبل ومبطلا له كما درج عليه عامة علماء المسلمين وغيرهم؛ وإنما هو الدين المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه والموافق للحق الذي تقوم عليه السموات والأرض ومن فيهن.

وهو لا يتعارض أبدا مع جاء في الكتب السابقة وجاء به المرسلون. وإن متابعة تلاوة آيات القرآن الكريم في السياق نفسه تقدم لنا أبعادا جديدة تؤكد المعنى الذي نتحدث عنه؛ قال تعالى مباشرة قبل النص الشاهد الذي نتدارسه: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ".

وبذلك يتسع مفهوم الإسلام من الإنسان بأنبيائه وكتبه وحكمته، إلى الكون بجميع مخلوقاته، التي منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه، وجعلها كلها تسلم لله رب العالمين، طوعا وكرها. وبهذا يكون الإسلام دين الله شاملا للخلائق كلها، بما فيها الإنسان؛ وهو معنى نجده بصيغ مختلفة في نصوص كثيرة.


باحث مغربيّ: هذه حقيقة الآية القرآنية "إن الدين عند الله الإسلام"

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire